كيف انتهت رحلة هروب يائسة مدتها 10 دقائق في السويداء؟
حين قررت أن تحضن ابنتها والصعود معها إلى حافلة صغيرة، ظنّت فاديا حامد أنها تبعدها من حمّى اشتباكات دامية في مدينة السويداء في جنوب سوريا، لكن رصاصة واحدة كانت كفيلة بأن تنهي حياة وأحلام الفتاة اليافعة.
تقول الوالدة المفجوعة البالغة 49 عاما لوكالة فرانس برس "غنى كانت صغيرتي ومدللتي، احتفلت بعيد ميلادها الرابع عشر قبل ثمانية أيام من مقتلها.. كانت فنانة جميلة تحبّ الرسم وتتعلم عزف الكمان".
بحزن شديد، تروي حامد وهي ممرضة وأم لثلاثة أولاد تفاصيل رحلة دامت عشر دقائق فقط وقلبت حياتها رأسا على عقب، هربا من اشتباكات عنيفة شهدتها مدينة السويداء الأسبوع الماضي بين مسلحين دروز وآخرين من العشائر، أوقعت أكثر من 1300 قتيل، بينهم 70 امراة و28 طفلا على الأقل، وفق حصيلة للمرصد السوري لحقوق الإنسان.
وتقول لفرانس برس "كنت أجلس وغنى في حضني، وقربي شقيقتي مع طفلتها، إلى جانب سائق الحافلة. بعد انطلاقنا بعشر دقائق تقريبا، رأينا سيارة سوداء في منتصف الطريق أمامنا تقطع المرور".
وتوضح "شعر السائق بخطر وقرر أن يعود أدراجه بسرعة. ما أن استدارت الحافلة حتى وجدنا أنفسنا تحت وابل من رصاص القنص من الاتجاهات كافة ورموا قنبلة باتجاهنا".
وتضيف بحزن شديد "أصابت رصاصة قناص غنى في عنقها، ماتت على الفور. الحمدلله أنها لم تتوجّع، أغمضت عينيها ولفظت أنفاسها في حضني".
وكانت عائلة حامد نزحت فور اندلاع الاشتباكات في 13 يوليو، من مسقط رأسها قرية خلخلة الواقعة شمال السويداء، الى مدينة مجاورة. ثم انتقلت صبيحة اليوم التالي إلى منزل والديها في مدينة السويداء.
مع وصول المعارك الى عمق المدينة، باتت حامد وأفراد من عائلتها مع عشرات النساء وأطفالهن ليلة الثلاثاء الأربعاء في مجلس ديني في المدينة على وقع دوي القصف.
عند الصباح، ارتأت عائلات النسوة أن يغادرن إلى منطقة أكثر أمنا. وتروي حامد أن نحو أربعين امراة مع أطفالهن صعدوا في الحافلة الصغيرة التي سرعان ما تعرضت للقنص عند التاسعة صباحا.
إثر ذلك، فرّ الركاب الى منزل مجاور للاحتماء داخله بينما بقيت حامد في الحافلة مع والدتها وشقيقتها وطفلتها وقناص يتمركز قبالتهن، على حد قولها.
وتشرح "لم أقبل أن أترك ابنتي. قلت سأبقيها في حضني حتى لو كنت سأموت معها"، لكن مع تجدد إطلاق الرصاص و"خشيتنا على طفلة شقيقتي، قررنا التوجه واحدة تلو الأخرى إلى المنزل".
حين وصلت إلى المنزل، لم تصدق حامد ما رأته عيناها: 15 امرأة وطفلان ينزفون جراء إصابات بالرصاص في الرأس أو البطن أو الظهر.
وتقول "كان المشهد كارثيا.. باعتباري ممرضة، بدأت تقديم الإسعافات. كنا نمزق قماش الستائر وشراشف الأسرّة لتضميد الجروح، من دون معقمات أو مسكنات".
رغم حجم فقدها بخسارة صغيرتها، إلا أن عجزها عن تخفيف آلام المتألمين أمامها كان موجعا.
وتروي بصوت مخنوق "أكثر ما مزّق قلبي أن النسوة اعتقدن أنني سأخفف آلامهن، لكنني كنت عاجزة ولا شيء لدي إلا القماش".
بعد تضميد ما أمكنها من جراح، تذكرت حامد أن جثمان ابنتها مسجّى في الخارج على الأرض. وتقول "بقي بالي عندها. وجع الضنى صعب للغاية. لم يهن عليّ أن أتركها على التراب لأنني أدركت أن أي سيارات إسعاف لن تجد طريقها إلينا ليلا".
رغم دوي قصف قريب، استجمعت الأم الثكلى قواها وتوجهت مجددا إلى الحافلة، حيث وضعت جثمان ابنتها "بعدما غسلت وجهها من الدماء بعبوة مياه" في الشاحنة و"ارتاح" قلبها، على حد تعبيرها.
عند ساعات الصباح، تمكن مسلحون دروز من السيطرة على الحي، وتم نقل المصابين إلى المستشفى بعد وفاة ثلاثة جرحى.
وتمكنت عائلة غنى من دفنها الخميس مع ابن عمها عامر (22 عاما) في تراب القرية التي أحبتها، كما تقول والدتها.
تضيف بألم يعتصر قلبها "هذه حكايتي. غصّة كبيرة ما حلّ بنا"، موضحة أنه حين وقعت الفاجعة "كنت قوية، لكن بعد دفن غنى انهرت تماما. استفقت حينها على وجعي".
في القرية، وجدت حامد منزلها تعرض للتخريب وقد تبعثرت محتوياته وسُرقت منه عبوات زيت وجرة غاز ودراجة نارية من بين مقتنيات أخرى، بينما غالبية المنازل محروقة أو استهدفها القصف.
وتضيف "حتى كمان غنى، وجدناه مكسورا".
وكانت غنى الفتاة جميلة الملامح وبيضاء البشرة مع الشعر الأسود الطويل، محبوبة من جميع أصدقائها ومعلماتها، تهوى الرسم وتحب عزف الموسيقى.
وتقول والدتها إن سعادتها كانت لا توصف حينما سمحت لها بالتوجه بمفردها إلى مدينة شهبا المجاورة من أجل تعلّم عزف الكمان في معهد متخصص.
على صفحته على فيسبوك، نشر المعهد صورة لغنى بينما تجلس على كرسي وتمسك الكمان، مرفقة بتعليق "تبكيك أوتار الكمان الحزين، وداعا يا جميلة العيون وصاحبة الحلم الكبير الذي قتلته هذه البلاد".